تستمع الآن

في ذكراه.. حكايات من حياة نجيب محفوظ الوظيفية خلال 37 سنة

الخميس - ٢٩ أغسطس ٢٠٢٤

تمر الذكرى الـ18 لوفاة الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ في 30 أغسطس، والتي تفتح المجال للحديث عن جوانب متعددة من حياة أديب نوبل التي تتضمن الجانب الأدبي في الأساس إلى جانب أيضًا الجانب السينمائي والوظيفي كذلك.

وفي التقرير التالي نستعرض سويًا حكايات شيقة من الحياة الوظيفية للكاتب الكبير نجيب محفوظ والتي استمرت طيلة 37 سنة حتى بلوغه سن المعاش في 1971.

ويحكي نجيب محفوظ مقتطفات من حياته الوظيفية والشخصيات التي ألهمته في كتاباته الروائية ضمن كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» للكاتب الصحفي رجاء النقاش.

وقال نجيب محفوظ خلال الكتاب: «أعطتني حياتي في الوظيفة مادة إنسانية عظيمة وأمدتني بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباتي. ولكن الوظيفة نفسها كنظام حياة وطريقة لكسب الرزق، لها أثر ضار أو يبدو كذلك. فلقد أخذت الوظيفة نصف يومى ولعدة ٣٧ سنة، وفي هذا ظلم كبير. ولكن الوظيفة في الوقت نفسه علمتني النظام، والحرص على أن أستغل بقية يومى في العمل الأدبي قراءة وكتابة، وجعلتني أستغل كل دقيقة في حياتي بطريقة منظمة، مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه. وهذا في تصوري هو أثر إيجابي للوظيفة في ظل ظروف المجتمع الذي نعيش فيه. فمن المستحيل أن يتفرغ الأديب فى مصر، ولو كنا مثل أوروبا، وصدر لى كتاب متميز لتغيرت حياتي، وكنت استقلت من الوظيفة وتفرغت للأدب، لأن الكتاب المتميز يحقق إيرادا يكفي لاتخاذ مثل هذه الخطوة».

بطل «القاهرة الجديدة»

يقول نجيب محفوظ: «عملت في وزارة الأوقاف ومجلس النواب وإدارة الجامعة . ففي الأوقاف كنت التقى بالمستحقين في الوقف للعائلات القديمة. وفي مجلس النواب كنت أتابع الصراعات الحزبية. وكنت أرد على مشاكل الناس التي تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب. ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس. أما في إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى. فبطل القاهرة الجديدة، عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن سقوطه، بدأ وهو طالب . وبطل، خان الخليلي، كان زميلا لنا في إدارة الجامعة واسمه أحمد عاكف، وقد جاء يشكرني بعد قراءته للرواية على محبتى له ، للدرجة التي جعلتني أطلق اسمه على بطل الرواية . والإبقاء على اسم ، أحمد عاكف، كما هو كان تحديا منى، لأنني أغير في الشخصية ومصيرها للدرجة التي تجعل صاحب الشخصية لا يعرفه ، وشخصيةأحمد عاكف في خان الخليلي، بها الكثير من ملامح الشخصية الحقيقية ولكنه لم يكن يشعر بها ، ومن هذه الملامح الأساسية : غروره الكاذب . ولأن أحدا لا يعترف بأن لديه غرورا كاذبا ، فإنني كنت مطمئنا وأنا أضع اسمه كبطل للرواية ، من أن الأمر لا يحمل أي خطر . كان أحمد عاكف، أعلى منى وظيفيا، وأذكر أنه تم تكليفه بتأسيس إدارة جامعة الإسكندرية عند إنشائها، وكان أول مدير الجامعة الإسكندرية: جامعة فاروق الأول في ذلك الوقت، هو الدكتور طه حسين  وقد كتب أحمد عاكف ، إحدى الرسائل فأدخل عليها الدكتور طه حسين بعض التعديل . فثار أحمد عاكف، ودخل وهو نصف مجنون على طه حسين مستنكرا أي تعديل على ما يكتبه ، قائلا له: أنا لا أقل عن أي أحد منكم . . فرد طه حسين: إن هذا شيء يسعدنا جدا ، واتصل بالقاهرة ونقله فوراً . لم يستمر ، أحمد عاكف ، في جامعة الإسكندرية بضعة أيام وكانت خسارة كبيرة له ، وضيع عليه غروره الكاذب وظيفة السكرتير المساعد لإدارة جامعة الإسكندرية والتي كانت تعنى حصوله على رتبة البكوية ، مثل أحمد بك عمر السكرتير المساعد في الجامعة . هذا هو أحمد عاكف : الذي خسر الكثير بسبب كبريائه الزائفة عندما رفض تعديل طه حسين لكلمة واحدة في خطاب له».

إلغاء ترقية

يقول أديب نوبل: «أذكر أن رئيس لجنة المستخدمين بوزارة الأوقاف قدم لي في أحد الأيام تهنئة على اختياري للدرجة الرابعة ، حيث أننى أمتاز على منافسي فى الدرجة وأتفوق عليه في كل شيء ، فأنا حاصل على الليسانس وهو حاصل على الكفاءة ، فقط ، وأنا سكرتير برلماني ، وهو رئيس كتبة إدارة التحقيقات ، والوزير الشيخ على عبد الرازق يعرف صلتي بشقيقه الشيخ مصطفى عبد الرازق ، فحصلت على الدرجات النهائية والترقية ، وانصرفت من العمل وذهبت لأبلغ والدتى بالترقية ، كما أبلغت أصدقاء مقهى عرابي ، خاصة أنني قبل انصرافي اطلعت على القرار وإمضاء الوزير . ثم حدث لي أمر محرج، وهو من أشد المواقف التي صادفتني في حياتي حرجا. ففى اليوم التالي مباشرة دخلت على زملائي في مكتب الوزير فوجدتهم في حالة وجوم . كنت على علاقة صداقة مع رئيس السكرتارية في المكتب: عبد السلام فهمي، وهو زوج الفنانة مارى منيب ، وله صلة قرابة بعبد الحميد باشا بدوى . وقد بدأ : عبد السلام فهمي ، حياته ممثلا في فرقة عبد الرحمن رشدى، ونشأت الصداقة بيننا بسبب النزعة الفنية لكلينا . وقد رحل عبد السلام في مطلع التسعينات ، وعاش سنواته الأخيرة حزينا على وفاة رفيقة عمره مارى منيب . وجدت عبد السلام ، واجما وهو يستقبلني في مكتب الوزير ، وانتحى بى جانبا ، وقال لي : ( إن هناك شيئا سيئا ، وهو أن ترقيتك للدرجة الرابعة ألغيت، ذهلت ، وقلت له : كيف حدث هذا وقد وقعها الوزير ؟! . . وحكى لي عبد السلام فهمي ، أن عمر باشا ، وكيل الوزارة – وهو قريب الوزير – أخذ كشف الترقيات بعد توقيعه من الوزير ومزقه أمام الوزير . وقال له إن ، إبراهيم باشا عبد الهادى  مدير الديوان الملكي وقتذاك – أوصى بحصول شخص معين على الدرجة الرابعة ، وسنعد كشفا جديدا».

وتابع: «ناداني الشيخ على عبد الرازق واعتذر لي ووعدني بالتعويض في أقرب فرصة، وقال لي : إن ما جرى تم في ظروف قهرية . وانتابني الخجل، فماذا أقول لأمي ولأصدقاء مقهى عرابي عن الترقية التي لم أحصل عليها أكثر من ٢٤ ساعة ؟ . ومن المؤكد أن حرماني من الترقية هو خطأ قانوني، فمادام الوزير وقعها فلا يلغيها إلا قرار وزارى آخر ، ولم أكن أستطيع أن أتخذ أي إجراء أو شكوى ضد على عبد الرازق».

بطلة «أميرة حبي أنا»

وحكى نجيب محفوظ عن الشخصية الحقيقية لبطلة فيلم «أميرة حبي أنا»، وقال: «لكنني أتذكر الشخصيات الحقيقية لهذه القصة الواقعية التي تحولت إلى فيلم أميرة حبى أنا فبطلها مدكور، – وهذا ليس اسمه الأول إنما اسم العائلة – شاب من عائلة معروفة وعمه هو : عبد الخالق باشا مدكور ، وكان متزوجا من ابنة عمه الغنية ، والحقوه بوظيفة في وزارة الأوقاف ، وكان شديد التأنق . والبطلة واسمها برلنت ، كانت موظفة جديدة في إدارة التحري بالوزارة ، وعملها هو إجراء تحريات عن العائلات التي تتقدم للوزارة طالبة الإحسان ، وكانت بهذه الإدارة فتيات وسيدات ، حتى لا تتحرج العائلات أثناء إجراء هذه التحريات . وبرلنت ، فتاة جميلة ومتحررة ، وكثيرا ما كنا نمازحها أنا و عبد السلام فهمي ، ولقد قمت بتغيير اسمها في الرواية . وضع ، مدكور ، عينه على برلنت ، التي لم تمانع في إقامة علاقة معه ، واتفقا على الزواج في السر ، خوفا من بطش حماه ، الباشا ، وأمضيا أسبوع عمل في الإسكندرية ، وفي نهاية الأسبوع طلقها ، بعد أن استمتع معها ونال ما اشتهاه . عادت : برلنت ، إلى العمل وقصت علينا – أنا وعبد السلام فهمي – ما جرى ، ووجهنا إليها اللوم واكتشفت : برلنت ، بعد ذلك أنها حامل ، ولم يكن مصيرها مأساويا ، لأن شخصا آخر يعمل مقاولا أعجب بها وتزوجها ، ومنحها الستر ، وكانت نهايتها حسنة».

أسوأ فترة في حياته الوظيفية

ويحكي عن أسوأ فترة في حياته الوظيفية ويقول:

 «عملت رئيسا لمؤسسة السينما لمدة عامين لم أفتح فيهما كتابا ولم أكتب كلمة ، وعشت في اكتئاب عام ، وكانت السينما مفلسة ولا توجد لدينا سيولة ، وأستطيع القول إنها أسوأ فترة في حياتي الوظيفية . لكننا حاولنا تحريك الأمور وافترضنا مليون جنيه من البنك الصناعي وبدأنا تعمل في بطء . كانت وظيفة مقلقة للراحة . كان الممثلون يأتون المكتبي في شارع طلعت حرب ويهددون بإلقاء أنفسهم من النافذة بسبب البطالة. وكنا نعمل في أجواء من الاتهامات والتشكيك ، وهي الفترة التي حدثت فيها هزيمة ٦٧ وعندما اقترضنا مبلغ المليون جنيه وبدأنا نعمل في بطء وجدت أمامنا ثمانية أفلام في اللمسات الأخيرة ، فانتهينا منها ، وبدأنا بعرضها في دور السينما . وتزامن العرض مع هزيمة ٦٧ ، فتعرضنا كمؤسسة سينما لهجوم حاد ، كيف نعرض هذه الأفلام والبلد في هذه الحال . ولم يتذكر أحد أن تلك الأفلام تم إنجازها قبل الكارثة . كانت أجواء جحيم ، فالرأى العام لا يرضى ، والصحافة معه ، بهذه الأفلام ، وديوان المحاسبة يطالبنا بالعمل وعرض الأفلام، والدكتور ثروت عكاشة يطلب منا إنتاج روائع سينمائية ، وإذا طلبنا ميزانية من وزير المالية انذاك الدكتور عبد العزيز حجازى يقول لنا : « اعملوا مثل فؤاد المهندس وأكسبوا . البلد خربت . . كانت ورطة كبيرة لى ، خرجت منها بالعناية الإلهية».

*صورة مرخصة للمشاع الإبداعي


الكلمات المتعلقة‎